_ 1 _ الكتابة مختبر للإشغال، تتخلق فيه المواد الحكائية وتتنظم، وبهذا المعنى فهي ليست مجالا تعويضيا عن خسارات الكاتب، أو موردا يطفئ فيه غلة العطش. هي ممارسة شاقة تسعى إلى خلق العالم وبناء الشخصيات بما فيها من مواقف وأمزجة وطبائع. والشخصيات هي التي تحيا حالات القلق والفرح والاكتئاب والاغتباط. الكاتب هو الآخر يحيا معها هذه اللحظات الانفعالية وغيرها. لكن قلق الكتابة السردية يكمن فيها قبل الكتابة وخلالها، كتأمل لإضفاء طابع التنظيم والبناء على مكونات العمل، وملاعبته باستمرار، ملاعبة لذيذة وقاسية في نفس الآن.
_ 2 _ ليست كتابة الرواية ككتابة القصيدة الشعرية، يمكن أن تستثمر لحظة الانفعال بمشهد أو بلحظة معاناة عابرة، للقبض عليها. بل إنها تحتاج إلى حياد الكاتب، فهو يترك للسارد أن يروي الأحداث ويصور المواقف ويخلق لحظات المفارقة والصراع. لذلك لا أكتب وأنا في حالة انفعال، وغالبا ما تدعوني الكتابة إلى كبح انفعالاتي الخاصة، حتى أتمكن من إكساب انفعالات الشخصيات معنى محددا من خلال المواقف التي تحياها.
_ 3 _ الكتابة شهادة على زوال اللحظات التاريخية وموت الأمكنة. شهادة على ربيع قادم قد نحيا فيه كل فصول الربيع التي مضت. ومأساوية الإنسان التي تعبر عنها الكتابة لا تلغي فرحه بالحياة. الكتابة شهادة على تحول الإنسان والمجتمع والتاريخ، وبهذا المعنى فهي شهادة تخييلية ، غير تاريخية، على التاريخ.
_ 4 _ ليست الكتابة مشروعا تجاريا ولا تبشيريا بأفكار أو إيديولوجيات. ولا هي نزوة، لأن النزوات غالبا ما تنتهي بلحظة الندم. الكاتب الذي يرهن حياته من أجل الكتابة، لا ينبغي عليه أن يندم على خسرانها. وهي ليست منذورة للخلود، بل إنها تمارس سطوتها وإغراءها في زمن / أزمنة القراءة الممكنة على قراء منتظرين هم الذين يبعثونها من النسيان.
_ 5 _ يجد المرء نفسه كاتبا، من غير أن يكون قد تدبر أمره أو اختار، إلا من حيث يكون الاختيار موقفا عقلانيا لتوجهات الحياة. هي صيرورة تعرفها حياة الكاتب، منذ تَشَكُّلِ لحظاتها الأولى. فهناك من يكتب من أجل أن يكتب، وهناك من يكتب من أجل أن يجعل الكتابة مطية لبلوغ منصب أو موقع للوجاهة في مجتمعه، وهناك من يكتب تحت الطلب، أو طمعا في ارتزاق. في الحالة الأولى تصبح الكتابة غاية في حد ذاتها، وهي بالمعنى الصوفي غاية الغايات.
_ 6 _ في الكتابة الروائية يمكن أن نتحدث عن زمن رابع، هو الذي تحضر فيه الأزمنة الثلاثة، ولا أحتاج هنا لأن أتحدث عن الزمن الذي يقع داخل الكتابة، والزمن الذي يقع خارجها. قوة الأشياء هي التي تجعل الكتابة داخل زمنها تتمثل الأزمنة وتستحضرها، وتعيد تنظيم العلاقة بينها عبر تشظيات الزمن وتمزقاته، بفعل الذاكرة أو بفعل الاستشراف، أو بفعل تحيين الماضي، أو بفعل سديمية زمن ما أو صيرورته. ذلك أن زمن الكتابة هو زمن لكل الأزمنة، له إيقاعاته الداخلية التي تنظمها أزمنة الحكي وتزميناته. أما الكاتب فهو يكتب بإيقاعه الخاص وبالطاقة التي يمتلكها.
_ 7 _ بالرغم من التلقائية التي تتميز بها لحظة الإبداع فإن إستراتيجية الاشتغال هي التي توجه العمل وتضبط مقاطعه وتمفصلاته وبناءه العام. وعلى مستوى التأمل المصاحب للكتابة، في تشكلاتها وتكويناتها، فإن بعض الصدف قد تغير من مجرى النص أو اتجاهه، وقد تمنحه حبكة معينة أو بناء ممهورا بشكل من الأشكال.
_ 8 _ تتحقق خطط الكتابة على مستويين: مستوى النص المفرد، بحيث تبحث له عن خصوصية ونكهة وتميز عن الأعمال السابقة عليه، ومستوى التجربة في عموميتها، حيث يتم الاحتفاء بأشكال التنويع في مواد المحكي، أو في بعض المقتربات من توظيف التاريخ والتراث والثقافة الشعبية والمسموع والمرئي. ولعل هذه الخطط هي التي تعمل على توفير الغنائية والهندسية باصطلاح الفن التشكيلي.
_ 9 _ كل الموضوعات صالحة لأن نكتب فيها، فهي لا تكتسب إغراءها وسحرها الخاص إلا من فعل الكتابة نفسه. لأن فعل الكتابة هو الذي يضفي على القبح جمالية، ويخلق التوازن بين العناصر المتنافرة والمفارقة لبعضها. ليس ثمة من موضوع جاهز، بل الكتابة هي التي تراود الموضوع وتستدرجه إلى مختبرها السري.