بعد 22 رواية و11 مجموعة قصصية، والعديد من الدراسات التي قدمها الروائي المغربي محمد عزالدين التازي، ومجهود أكثر من أربعين سنة من البحث والاجتهاد في مجالات الرواية والقصة القصيرة والمسرحية وقصص الأطفال وسيناريوهات الأفلام والنقد الأدبي، جاء هذا الحوار ناقلاً أنين حرفه، وعاكساً آهة قلمه، فقد اعتراه تعب الكتابة، واعترف بإرهاق فكره وأنامله.
اختياره وحصوله على «جائزة العويس الثقافية» مؤخراً في حقل القصة والرواية المسرحية لم يكن عبثياً، فالجائزة تستحق اسماً يليق بها، واستحقاقه لها بعث الروح في داخله، وأعاد النبض لقلبه، وبث الحرارة في ثنايا نفسه.
لا يمر عليه يوم إلا وينهل الورق من حروفه الكثير، فقد وهب نفسه للقلم، وأيام السنة لديه سواء، لا أعياد تقف أمام قلمه ولا مناسبات تشغله عن الإبداع. الحديث معه لا يمكن أن يكون إلا حميمياً، لاسيما أنه يبحر في عالم الأوراق والأقلام، ويتنقل مع شخوص وأبطال رواياته حيثما وأينما كانوا، ومع دفء صوته، تنساب الانفعالات وتتهادى، فتكون عاصفةً بكل حنان، وبركاناً لا ينثر إلا الورود والرياحين. «البيان» فكان الحوار التالي.
علاقتك بالكتابة حميمة إلى حد العشق، كيف تصفها أنت؟
أتنفس الهواء أثناء الكتابة وأعيش الحياة، وأشعر بالضياع في اليوم الذي لا أكتب فيه، ما يجعلني أكتب كل يوم، والكتابة بالنسبة لي ليست مجرد تعبير عن قضية ما، بل هي جمالية الحياة التي تجعل من الأدب أدباً، لأن معالجة الأديب للقضايا ليست كمعالجة عالم الاجتماع أو الاقتصاد أو المحلل أو السياسي، فالاختلاف يكمن في أننا نضفي طابع الجمالية على اللغة من خلال البناء الروائي.
قصة حب
هل ندمت على أي عمل من أعمالك؟
أعمالي كأبنائي، لا أجرؤ على المفاضلة بينهم، وهذا يرجع لقصة الحب التي أعيشها مع كل عمل جديد، وإلى تباينها وتميز كل منها عن الأخرى. ومن رواية إلى أخرى، أسعى لأن أطرح موضوعاً جديداً في كل مرة وبطريقة مختلفة، وبأسلوب أبتكره لِلَّحظة ليليق بمكانة ما أكتبه، بمعنى أنني أمارس نوعاً من التخطي والتجاوز من عمل لآخر، وإذا لم أشعر بقدرتي على هذا التخطي وهذا التجاوز، فإنني أعتبر العمل الذي أنا بصدده محبط وفاشل ولا يستحق أن يخرج للناس.
هل كان للنقد أي أثر أو سلطة على كتاباتك؟
أبداً، في مرحلة السبعينيات، كان النقد شفهياً يُمارس أثناء لقائنا بالجمهور في القاعات الثقافية، وقد اتُّهِمْنا بالنخبوية والبرجوازية وأننا لا نتناول في أدبنا قضايا الشعب، وكان هذا النقد يُستعمل كأداة عنف ضد الأدب والأدباء، فلم يكن هناك مجال لتحضر قضية الأدب بشكلها الطبيعي، كون الأدب لا يستنسخ الواقع، بل يتمثله ويعيد إنتاجه وتركيبه، بينما الناس يتوقعون من الأديب أن يكتب صراخاً.
ويختار ما يختارونه من ألفاظ ومصطلحات، ويعبر عن أحاسيسهم من وجهة نظرهم هم لا وجهة نظره هو، ولايزال يتردد في مسمعي صوت ذلك الشخص الذي كان يصرخ في القاعة الثقافية قائلاً: نحن نريد الخبز لا الأدب.
وما ردك على ذلك الشخص؟
أرى الأدب ضرورة في حياة الناس، لأنه يعلمنا كيف نكتشف أعماق أنفسنا وأنفسهم، ويكشف لنا لذة الحياة بكل ما فيها، وينقل لنا رائحة وطعم رغيف الخبز نفسه.
أهملت القصة القصيرة لصالح الرواية، لماذا؟
لم أهملها، وتردد كثيراً بأنني انتقلت من كتابة القصة القصيرة إلى الرواية، ولكن الأمر ليس انتقال كما يراه الآخرون، بل هو اللحظة التي تحضر فيها انطباعات عن الإبداع الذي سوف يتكون ويتشكل، وهذه اللحظة هي ما يفرض الشكل الإبداعي سواء كان على هيئة قصة أو رواية، وبصراحة، لا أفاضل بين الاثنتين، فكلاهما يعبر عما بداخلي، ويوصل للجمهور ما أريد البوح به.
جوائز وغضب
ولكن القصة لا تجلب الجوائز كما الرواية ؟
نحن لا نكتب من أجل الجوائز، ومن خلال خبرتي وعملي كمُحكّم في كثير من المسابقات الأدبية، أدهشني غضب وانزعاج بعض أصدقائي لعدم فوزهم بالجوائز، وهذا أمر مؤسف، ففي مجالات الأدب والشعر.
يجب على المبدعين ترشيح أنفسهم ونسيان ذلك فوراً، فإن فاجأتهم الجائزة بالقدوم إليهم والطرق على أبوابهم، فأهلاً وسهلاً بها وليسعدوا ويهنأوا، وإن اختارت غيرهم، فلا يتوقفوا عن مواصلة المشوار، ولا يشعروا بخيبة أمل، لأن الجائزة هي التي تستهدف هذا الأديب أو ذاك وليس العكس.
رحلة إبداعية
رحلة إبداعية طويلة، ومشوار غني بالإبداعات وبالأعمال المتميزة، أهلتك لغرس اسم ناجح انتشرت جذوره في الوطن العربي. ماذا تمثل لك سلسلة النجاحات والتكريمات التي حصلت عليها؟
كل تكريم يعد حافزاً ودافعاً لخطوات أهم وأكبر، وبالنسبة لجائزة «العويس الثقافية» فقد جاءت في مرحلة شعرت فيها بالتعب من الكتابة، فلسنوات تجاوزت الأربعين، وهبت نفسي للقلم، ولم يمر علي يوم لم أكتب فيه، فأيام السنة كلها بالنسبة لدي سواء، ولا تمنعني الأعياد أو المناسبات السعيدة أو الحزينة من الكتابة، لأني كنت أجد نفسي حين أكتب، وأضيع في اليوم الذي لا أخط حبر قلمي على الورق.
لأي مدى تأثرت رواياتك بالربيع العربي؟
في الحقيقة تأثرت كتاباتي بالواقع العربي، ولكنها لم تتأثر بالربيع العربي نفسه، لأننا لانزال في مرحلة فهم ما يحدث، وأنا لست من أولئك الكُتاب الذين يمسكون باللحظة في طراوتها، ليعبروا عنها شعراً أو رواية، بل أنتظر أن يتضح السبيل أمامي، ويشتد عود الموقف والحكاية، وأن يتم تمثل اللحظة التاريخية التي تمر أمامي بنوع من المساءلة والوعي.
والآن، نحن أمام ثورة مُجهدة تسمى ثورة الربيع العربي، وباعتقادي أنها ثورة أُجهضت، وهذا لا يعني أنها لم يكن من المفروض أن تحدث، بل كان ضرورياً أن تشتعل، لأنها غيرت مسار أمتنا في العديد من البلدان، وخلخلت وأسقطت بعض الوجوه التي لم تكن ستسقط لولاها، كما يجب أن تسقط كل الأنظمة الفاشية حول العالم.
على عكس أغلبية الكُتاب والمثقفين، دائماً ما تطلب من الشباب ألا يستمعوا لنصيحة أحد سوى أنفسهم، لماذا؟
هذا صحيح، لأن الشخص الذي يقدم النصيحة يتلبس بلبوس الحكمة، ويعتقد أنه يفهم الحياة أفضل مما يفهمها غيره ممن يوجه لهم النصيحة، وهذا خطأ كبير، فبرأيي أن من يعاني من شيء هو وحده من يستطيع توجيه النصيحة لنفسه، والإتيان بالحلول الأنسب، والأمر كذلك بالنسبة للكتابة.
ما الذي تسعى إليه في كتاباتك المقبلة؟
أسعى للابتكار والتجديد في الأشكال والمضامين، وهذا ما أحاول أن «أشتغل» عليه في جديدي، فأنا لا أظلم أعمالي، بل أعطي كل فكرة حقها من التقدير، وكل قصة أو رواية حقها من التقديم، وكل قارئ حقه في أن يعيش لحظة غنية ممتعة ومفيدة.
سيرة
ولد محمد عز الدين التازي في فاس سنة 1948، وينتمي إلى جيل أدبي راهن على تحديث الكتابة القصصية والروائية في المغرب منذ بداية السبعينيات، ترجمت بعض قصصه القصيرة إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والألمانية والسلوفانية، وترجمت روايته «مغارات» إلى الفرنسية والإسبانية، وروايته «كائنات محتملة» إلى الإسبانية.
كتب الرواية والقصة القصيرة، والقصة القصيرة جداً، والمسرحية وقصص الأطفال وسيناريوهات بعض الأفلام والنقد الأدبي، ودُرِّست أعماله الروائية في عدة أيام دراسية نظمتها جامعات، وكرمته جمعيات ومؤسسات ثقافية عدة، كما منتحته العديد منها عضويتها الشرفية وشهادات تقديرية.
تحولت روايته «رحيل البحر» إلى شريط أنجزته التلفزة المغربية، وقررت وزارة التربية الوطنية روايته «المباءة» على تلاميذ الجذع المشترك الثانوي، واختيرت روايته «أيام الرماد» من بين أفضل 105 روايات عربية نشرت خلال القرن الماضي.
«يوم آخر فوق هذه الأرض» رحلة في عمق التفاصيل
فازت رواية محمد عزالدين التازي «يوم آخر فوق هذه الأرض» بجائزة الطيب صالح العالمية للإبداع في دورتها 2013، وتميزت الرواية بالتعمق في التفاصيل، والتي تجعل القارئ يشاهد الأحداث وكأنها شريط سينمائي يدور أمامه.
وفي هذه الرواية، يأخذنا محمد عزالدين التازي إلى مدينة فاس، الفضاء الواسع الذي احتضن الأحداث، فرأينا شوارعها وأسواقها وسكانها، وعشنا مع نجاريها وحداديها ودباغيها وباعتها المتجولين والمثقفين والمتسولين، فتراءت فصول الحكاية، من خلال شخصية مراد الأشقر، الرجل الذي يحلم بأنه أصبح طويلاً جداً، ويعيش هذا الحلم يوماً كاملاً، حتى صارت أعالي أعمدة الكهرباء عند مستوى ساقيه..
والسيارات العابرة كلعب أطفال تلهو وتسير هنا وهناك، فأصبح مع هذا التغير ينظر لحياته الشخصية من الأعلى دون أي نزعة استعلائية، فيرى نفسه في قلب مدينته فاس، ويشاهد التحولات التي تدور من حوله، وتأثيرها على الحياة الاجتماعية، ليطل على معالم فاس وأحيائها وأزقتها وشوارعها، مستحضراً حنينه للمدينة التي عاش فيها طفولته، تاركاً مساحة كبيرة للخيال ليصول ويجول بوعي رصين، ولغة جميلة.
ما يميز الرواية أنها تنقلنا إلى فاس، لنمارس الرياضة على «طريق ملعب الخيل»، حيث المكان الذي يمارس فيه مراد الأشقر رياضته اليومية، وتأخذنا لنعيش في «عمارة الحاج السحنوني» لنعايش الأحداث مع أبطال الرواية، ونزور البطل مع صاحب العمارة الحاج السحنوني، وزوجته شمس الضحى وابنتهما قمر، وزميلته قطر الندى التي ترغب بالزواج منه.
استغرقت كتابة هذه الرواية سنة كاملة، بآلية عمل يومية، فكان الجهد فيها واضحا، ونتيجته قيمة أدبية كبيرة، وتظهر فيها الاشتغال على مستويات التخييل كونها عالم فسيح تمارس فيه الرواية تخييلها للعوالم واستحضارها للممكن واللاممكن.
وتشهد الرواية حضور شخصيات عدة، لكل شخصية حكاية، ولكل حكاية أفق واسع لا تنتهي عنده الأحداث، إذ تتقاطع حياة كل شخصية مع حياة فاس وأبعادها المختلفة، لتترك القارئ أمام مجموعة قصص لا يستطيع إلا أن ينبهر بها، ويرحل معها ويعايشها، فتصبح لا شعورياً جزءاً من واقعه.
أجمل ما في الرواية أنها تغوص في أعماق النفس البشرية في جميع حالاتها، فتقابل الانفعالات بصوت العقل والضمير والتساؤلات التي تتردد في الصدر بصوت دون صدى، تاركة كل الحالات والانفعالات أمام القارئ، يعيش معها لحظة بلحظة، فيتعاطف مع بطل الرواية، ويجيب على تساؤلاته، ويفكر بعقله وقلبه معاً.
القاص والروائي محمد عز الدين التازي: -قليلون هم الذي وصلوا إلى تحقيق القيمة الأدبية بعمل واحد.
أجرى الحوار: محمد سعيد الريحاني
الروائي المغربي محمد عز الدين التازى من مواليد سنة 1948 بمدينة بفاس ، حاصل على الدكتوراه في الأدب الحديث، يعمل أستاذا للتعليم العالي بالمدرسة العليا للأساتذة بتطوان، عضو عدة جمعيات وهيئات ثقافية. ترجمت بعض مجاميعه القصصية القصيرة إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والألمانية والسلوفانية، وترجمت روايته “مغارات” إلى الفرنسية. اختيرت روايته “أيام الرماد” من بين أفضل 105رواية عربية نشرت فى القرن الماضي. جمعنا اللقاء به فكان هدا الحوار.
محمد سعيد الريحاني: إذا طُلِبَ من الأديب محمد عز الدين التازي إكمال صورته الإبداعية المرسومة في دهن القراء، فكيف يقدم مسيرته وكيف يسترجع بداياته ويستحضر صداقاته الإبداعية؟
محمد عز الدين التازي: في مطلع الستينات من القرن الماضي، بدأت أحاول الكتابة وأنا تلميذ في الثانوي. حاولت أن أكتب الشعر تحت تأثري بمقروءاتي في الشعر العربي القديم والحديث، لكني أدركت أن طريق الكتابة الشعرية لن يوصلني، فقد أدركت بحس خاص أن الرداءة هي ميسم ما كنت أكتب. كانت الرغبة في الكتابة تراودني بقوة، بدوافع داخلية وأخرى خارجية. الدوافع الداخلية غير مفسرة، والدوافع الخارجية تعود إلى أنني كنت أحيا وحيدا، أستشعر فراغا كبيرا في حياتي، لا أملكه إلا بالقراءة، والقراءة في هذه المرحلة لم تكن موجهة من قبل أحد، لذلك كنت أقرأ كل ما يصل إلى يدي من كتب.
بدء من منتصف الستينات، تعرفت على مجلة الآداب ومجلة شعر البيروتيتين، وبدأت قراءاتي تتوجه نحو التراث الأدبي والفكري العربي، والأدب العربي الحديث، ومترجمات الأدب العالمي. أعجبت بقصص يحيا حقي ويوسف الشاروني ويوسف إدريس وقرأت كل أعمال نجيب محفوظ التي كان قد نشرها، وما كتب حولها من نقد، وخاصة كتابات صبري حافظ. كما قرأت الأدبيات الوجودية والماركسية والكثير من مترجمات الأدب العالمي. وفي هذه المرحلة، كتبت قصصا قصيرة وبدأت النشر سنة 1966 في الملحق الثقافي لجريدة الأنباء ثم في صفحة أصوات وفي الملحق الثقافي لجريد العلم. كنت ما أزال تلميذا في ثانوية القرويين بفاس، ومقروءاتي ولدت لدي صدمة كبيرة بالمقارنة مع ما كنا ندرسه. في نفس الثانوية وجد معي، وفي نفس المرحلة، القاص أحمد بوزفور، والشاعران عبد العلي الودغيري وأحمد مفدي، لكني سبقتهم إلى النشر، إن لم أكن قد سبقتهم إلى الكتابة. كما تعرفت على الشاعر محمد بنيس في نفس المرحلة، وقبل أن ننتقل إلى كلية الآداب بفاس، وتعرفت على الشاعر محمد السرغيني الذي مدني بالكثير من الرعاية الأدبية.
في كلية الآداب، التي التحقت بها سنة 1967، تعرفت على الكثير من الكتاب والشعراء الشباب: أحمد المديني، محمد بنطلحة، المهدي أخريف، إدريس الملياني، إدريس الناقوري، أحمد زيادي، وكثيرين، كانوا مهووسين مثلي بأسئلة الكتابة. تعرفت أيضا على أساتذة تشغلهم قضايا النقد والإبداع، وهم: محمد برادة، حسن المنيعي، محمد الخمار الكنوني، أحمد المجاطي، وأحمد اليابوري، وإبراهيم السولامي. وهؤلاء الأساتذة، أصبحوا بسماحتهم وتواضعهم أساتذة وأصدقاء، فتحوا لي بيوتهم، وحبوا كتاباتي بالكثير من التشجيع. في سنة 1968 نلت جائزة جمعية البعث الثقافي بمكناس، التي كان الأستاذ حسن المنيعي هو المشرف عليها، وفي سنة 1969 نلت جائزة القصة القصيرة، التي نظمها الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، فرع فاس، وكان في لجنتها الأساتذة: برادة واليابوري والمجاطي. علمتني هذه الوضعية: الاسترشاد بمقروءاتي، رفقة الأدباء الشباب، نيل جائزتين، الإصغاء إلى أسئلة الأدب والنقد التي كان يصوغها أساتذتنا من الغليان السياسي للمرحلة ومن الثقافة الطلائعية الجديدة التي كان يعرفها العالم.
لذلك أقول إنني قد أتيت إلى الكتابة من القراءة، وبعبارة أخرى، لقد تعلمت الكتابة من القراءة.
محمد سعيد الريحاني: من بين الكتاب من جيل الرواد، يبدو أن محمد عز الدين التازي من القلائل الذين نالوا نصيبهم من المواكبة النقدية والتكريم والاعتراف في حياتهم. إلى ماذا تعزون ذلك؟
محمد عز الدين التازي: ليس من حقي أن أفسر ما قام به الآخرون تجاه أعمالي من مواكبة نقدية، أو احتفاء بشخصي، فهم الأجدر بأن يجيبوا عن هذا السؤال. أما من جانبي، فأنا لم أحرض أحدا على أن يكتب عن عمل من أعمالي، ولم أسع إلى الجوائز، إيمانا مني بأن الجوائز هي التي تأتي إلى الكاتب وليس هو من يسعى إليها، ولم أدفع بجهة من الجهات التي كرمتني، وهي كثيرة، إلى أن تقوم بهذا التكريم. إنني بالمناسبة، أشكر تلك الجهات مبادرتها التي هي محل تقدير مني، لكني غارق في مشاريعي الأدبية، ولست ممن يكتبون ويروجون بالدعاية لأعمالهم.
محمد سعيد الريحاني: الراحل، الشاعر الكبير محمد الخمار الكنوني، صاحب الديوان الشعري الوحيد: “رماد هسبريس” الصادر سنة 1987، في أحد حواراته نصح الشعراء الشباب بأن يكونوا مقلين في إنتاجاتهم. بالنسبة لمحمد عز الدين التازي صاحب أزيد من خمسين عملا إبداعيا في شتى الألوان الأدبية، من القصة القصيرة مرورا بالرواية والمذكرات ووصولا إلى أدب الأطفال، بماذا تنصح الكتاب الشباب؟
محمد عز الدين التازي: كان المرحوم الشاعر الكبير محمد الخمار الكنوني قد وجه إلي نصيحة من نوع آخر، وهي أن أكتب باستمرار، وألا أنتظر نشر عمل حتى أكتب آخر. والمرحوم محمد الخمار كان قد حدثني عن رواية شرع في كتابتها، فهو نفسه، كسعدي يوسف، وغيرهما من الشعراء، وجدوا في الكتابة السردية ما يغري بارتيادها. وحقا، فلقد كان محمد الخمار، إلى جانب أحمد المجاطي، شاعرين مقلين، يُقَطِّرَان قصائدهما ويعتصران معانيها وصورها ولغتها من تكثيف شعري دال وموح ورامز. ذلك كان توجههما في الكتابة الشعرية. أما بالنسبة إلي، وإلى كتاب وشعراء مغاربة آخرين، فالكم ليس دليلا على القيمة الأدبية للكاتب أو الشاعر، ومع ذلك، قليلون هم الذي وصلوا إلى تحقيق القيمة الأدبية بعمل واحد، كما حدث مع رامبو على سبيل المثال. إن الكَمَّ هو الطريق في رأيي، للوصول إلى النوع، أي إلى التنويع في الأشكال والمضامين. إن روائيا كنجيب محفوظ، وقد نشر أزيد من أربعين رواية، ما كان بإمكانه أن يُوَسِّعَ من عوالمه ومن بنائه للأشكال، وكذلك الأمر بالنسبة لروائيين عرب، كإدوار الخراط ،إلياس خوري، نبيل سليمان، ومغاربيين كواسيني الأعرج، أحلام مستغانمي، صلاح الدين بوجاه، محمود طرشونة، ومغاربة كمبارك ربيع، أحمد المديني، والميلودي شغموم.
أنصح الكتاب الشباب بألا يستمعوا إلى نصيحة أحد، ففي مجال الكتابة الأدبية، لا شيء ينير الطريق غير تلك النصائح التي يوجهها الكاتب لنفسه، وهو يحفز وعيه النقدي، المرافق للكتابة، على التوجيه نحو يخفف من غلواء المغامرة، وما يُبْقِي للكتابة قوتها الدلالية والجمالية. إن من يستحضر هذا الضمير لا يحتاج إلى نصيحة أحد، كما أن من يسترخص الكتابة هو الآخر، لا يحتاج إلى نصيحة أحد.
محمد سعيد الريحاني: كنتم من رواد الكتابة القصصية في المغرب، لكن سرعان ما تحولتم إلى الرواية، وقطعتم صلتكم بكتابة القصة القصيرة. هل القصة القصيرة مجرد عتبة لدخول عوالم السرد المطول؟
محمد عز الدين التازي: ليس صحيحا أنني قد قطعت صلتي بكتابة القصة القصيرة، فهذا الجنس الأدبي القائم على اللحظة، والتكثيف، والشاعرية، يظل دوما، جنسا أدبيا له قدرته على التقاط تفاصيل دالة من اليومي، وقدرته على ربط الصلة بالقارئ، من خلال النشر في الجرائد والمجلات. لم أعد أداوم على نشر قصصي القصيرة بالكثافة التي كانت في السابق، لكني ما زلت أجد في كتابة القصة القصيرة ذلك الافتنان القديم، وما زلت أخبر إمكاناتها التعبيرية والجمالي، كشأن صديقي، الروائيين مبارك ربيع وأحمد المديني، اللذين رغم انشغالهما بكتابة الرواية وبكتابات أخرى، ما يزلان على نفس الوفاء القديم لكتابة القصة القصيرة، وكشأن كتاب عالميين كإرنست همنغواي وأرسكين كالدويل، جمعوا بين الكتابة في الجنسين. الأمر ليس مفاضلة بينهما، فلكل منهما حدوده ووسائطه في التعبير. في أعمالي الكاملة، تسع مجموعات قصصية، اثنتان منهما لم يسبق نشرهما، ولدي مجموعة قصصية هي العاشرة، تنتظر النشر.
محمد سعيد الريحاني: يعرف المغرب حاليا حركية غير عادية تهم جنس القصة القصيرة، يقودها في الغالب قصاصون شباب. هل ترتبط القصة القصيرة دائما بفترة الشباب، أم أن ثمة وعيا جديدا لدي القصاصين المغاربة بأهمية جنس القصة القصيرة؟
محمد عز الدين التازي: أتابع باهتمام ما يكتبه جيل جديد من الكتاب المغاربة، وفي كل الأجناس الأدبية، فللشعر طفرته الجديدة، وللقصية القصيرة أقلامها التي أشرقت بالكثير من النصوص الجميلة، ومن هذه الأقلام ما انضم إلى جمعيات فاعلة في تخصيب الكتابة القصصية، ك”مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب”، التي احتضنت الكثير من الأقلام المبدعة، وأصدرت العديد من المجموعات القصصية المطبوعة بطابع التجديد، فضلا عن الكتب النقدية التي واكبت هذا الجنس الأدبي، ومجموعة” الكوليزيوم القصصي” التي نظمت عدة ندوات ولقاءات حول الكتابة القصصية، ونشرت كتابها الأول.
لكني لا أربط بين هذه الحركة وبين فترة الشباب، بل أربط بينها وبين الإشراقات السردية الجميلة التي يقدمها هذا الجنس الأدبي، وطاقاته الإبداعية في خلق اللحظة الاجتماعية والجمالية، وهو ما يشكل نوعا من الإغراء الذي يستقطب الكتاب والمبدعين.
محمد سعيد الريحاني: هل يمكن اعتبار المغرب عاصمة مغاربية للقصة القصيرة، على غرار تونس كعاصمة للشعر، والجزائر عاصمة للرواية؟
محمد عز الدين التازي: الإبداع الأدبي، شعرا وقصة قصيرة ورواية، لا عاصمة له، فهو كوني، لأن خطابه يتجه نحو الإنسان أينما كان. ومع ذلك، فقد وجدت بعض الجهات الثقافية، في البلدان المغاربة، وفي المشرق العربي، اهتمت بالإبداع القصصي والشعري والرواية ونظمت له عدة لقاءات وندوات. وإذا كنت تسمي تونس عاصمة للشعر، فقد نظمت بها ندوات ولقاءات اهتمت بالكتابة الروائية العربية، وفي مدينة قابس خصوصا، التي أصبح لها تقليد عقد الندوات حول الكتابة الروائية العربية. وإذا كنت تسمي الجزائر عاصمة للرواية، فبها توجد جمعية “الجاحظية”، التي يرأسها الروائي الجزائري الكبير الطاهر وطار، وهذه الجمعية تنظم جائزة للشعر باسم الشاعر الجزائري الكبير مفدي زكريا، وقد نالها مؤخرا الشاعر المغربي إدريس علوش. أما وأنت تسمي المغرب عاصمة للقصة القصيرة، فقد نظمت بالمغرب عدة ندوات حول الرواية.
إن البلدان المغاربية الثلاثة، وبلدانا عربية أخرى على رأسها مصر، تعرف التفاتا خاصا نحو الإبداع الأدبي، وفي كل الأجناس، كما في الكتابة النقدية، بعد أن ظهرت حركة أدبية تجديدية وتحديثية، شملت كل الأجناس، كما شملت النقد الأدبي، أسس لها وعي جديد بماهية الأدب، وتصويره لتحولات المجتمع، واشتغاله على بناء الأشكال.
محمد سعيد الريحاني: الأدب والنقد وجهان لعملة واحدة، لكنهما يظلان يتناوبان على القيادة، فمنذ أرسطو حتى القرن التاسع عشر، سيطر النقد الأرسطي وظل متحكما في الإبداع الأدبي والقراءة تحكما شبه مطلق، إلى أن انتفض الإبداع مع الثورة الرومانسية. هل تعتقدون أن الإبداع الأدبي في المغرب يقود النقد أم العكس، أم أن ثقافة حوار الصم هي السائدة؟
محمد عز الدين التازي: ظل النقد الأرسطي مؤثرا في كل النظريات النقدية التي جاءت بعده، سواء في الخطاب النقدي العربي القديم، أو حتى في النقد الجديد الفرنسي والأنجلوساكسوني. والأمر يرجع إلى التنظيرات الهامة التي جاءت مع كتابي أرسطو: “فن الشعر” و”فن الخطابة”، أو المفاهيم التي أحدثها كالمحاكاة والتطهير والباروديا وتقسيماته لأنواع الأدب. وهي تنظيرات ومفاهيم استفاد منها النقد الجديد وطورها وأضاف إليها. كذلك كان النقد الأدبي يبني ذاته وامتداده على الأسس النقدية التي جاءت مع النقد الأرسطي، فقد ظلت الأعمال الأدبية في حاجة إلى الوصف، والتقييم، والتفسير، لأنها لا تغتني إلا بما يمارسه الناقد عليها من فعل للقراءة، وهذا الفعل القرائي، عندما يتجاوز الانطباعية، والاعتماد على البلاغة القديمة، في مواجهة نصوص تأسيسية لقيم وجماليات أدبية جديدة، فإنه يستفيد من الخلفيات والمرجعيات النظرية، وهو أيضا، يكتشف في تلك الأعمال صَوْغَهَا الجديد لمعنى الذات ومعنى العالم وبناء الأشكال، ليؤسس على ذلك خطابا نقديا يتجدد في تنظيراته ومفاهيمه ومصطلحاته.
مسألة تبادل التأثر والتأثير بين النقد والإبداع الأدبي تشبه علاقة البيضة بالدجاجة، أيهما أسبق، وهي تشبه الأدوار المتبادلة التي يقوم بها الممثلون على خشبة المسرح الواحد. مع ذلك، فإن هيمنة النقد على الإبداع، أو ما سمي بسلطة النقد والناقد، ظل ينتمي إلى مرحلة في تاريخ النقد الأدبي، هي التي ارتبطت بالحكم على الآثار الأدبية وتقييمها بأحكام القيمة، انطلاقا من الذوق الأدبي للناقد وثقافته. وكرد فعل على هذه الوضعية، ظهرت سلطة الإبداع، التي اخترقت سلطة النقد، وفي وضع ثالث عرفته أوربا استعادت العلاقة بين النقد والإبداع توازنها، فقد جاءت الحركات الرومانسية والسريالية بتنظيراتها التي اجتمع فيها نقاد ومبدعون، وكتب الشاعر بودلير عن مدام بوفاري لفلوبير، وجاءت الرواية الجديدة في فرنسا بنقاد روائيين جمعوا بين الكتابة والتنظير. مع ظهور النقد الجديد، باتجاهاته النقدية، لم تعد ثمة من خصومة بين المبدع والناقد، فالتنظيرات والمفاهيم أصبحت ذات صلة وثيقة بالمَدِّ الإبداعي وإنجازاته النصية.
أما في المغرب، فقد كَوَّنَ النقد الأدبي تاريخيته من المراحل التي عاشها، وهي مراحل ارتبطت بالتحولات التي عرفها النقد الأدبي في أوربا، فمن النقد الإيديولوجي الذي ظل يحاكم الأعمال الأدبية بمواقع كتابها إلى نظرية الانعكاس التي جاء بها لوكاتش، إلى البنيوية والبنيوية التكوينية والنقد الباختيني والنقد السيميائي والتفكيكي والهرمينوتيقي والتأويلي الخ… هو مشهد نقدي ساهم في تكوينه نقاد مغاربة تكثر أسماؤهم كما تكثر أسماء المبدعين الذين تعرضت أعمالهم لهذا النقد، والذين كتبوا الشعر والرواية والقصة القصيرة. فمن المشرحة التي تعرضت إليها النصوص، إلى الغلواء في ربط الكتابة بنخبوية وبورجوازية الكاتب، إلى الوصف البنيوي، إلى المقاربة السيميائية، الخ…
في هذا المشهد النقدي، الذي عرف تاريخيته وتطوره وتقاطعاته، نجد أن النقد المغربي الذي ارتادته أقلام نقدية مغربية كثيرة، اجترجت نصوصا مغربية وعربية، كان وما يزال يبحث عن نفسه، مستلهما، أو متكئا على بعض الصنافات النقدية التي تنتمي إلى إنجازات نقاد غربيين أقاموها على نماذج من الأدب الغربي. لكن نظرية الأدب، بشقها الذي ينتمي إلى الشعرية، وهي تبحث في المبادئ العامة للأدب، وفي الأدبية،تردم هذه الهوة بين نص كتبه مغربي أو غير مغربي، كما أن علم السرد، بما أرساه من قواعد لدراسة السرد الأدبي، لا يميز بين نص كتبه مغربي أو غير مغربي. لذلك، فقد وجد في المغرب نقد أدبي يقترب من الدقة العلمية، المبنية على قواعد هذا النقد، كعلم، ومن احترام خصوصية الأعمال الأدبية، على سبيل الكشف عن هذه الخصوصية.
ليس ثمة من حوار للصم بين النقد الأدبي، وبين الإبداع الأدبي في المغرب، بل ثمة تحاور بين النص والقراءة. هذه هي القمة التي وصلت إليها العلاقة بين النقد والأدب، وهي لحظة أدبية مشتركة بين النقاد والمبدعين، فكما أن النقد يبحث عن سبيل لتطوير أدواته وآليات اشتغاله، فالإبداع الأدبي يشتغل أيضا، بتطوير توسيعه للقاعدة الاجتماعية التي تشكل موادا بانية لأعماله، كما يشتغل على تطوير التقنيات الأدبية، والاشتغال على إستراتيجية الأشكال، التي منها يكتسب أدبيته.
محمد سعيد الريحاني: إذا طلب منكم رسم جغرافية الرواية عربيا وجغرافية الرواية مغربيا، ما هو سلم التصاميم الذي سوف تستعملونه؟
محمد عز الدين التازي: الرواية العربية، ومنها الرواية المغربية، تعرف تواترا كبيرا في النمو، واطرادا في نشر نصوص متميزة، وهذا ما يلفت النظر إليها، فالتحولات الكبرى جارية في الإنجازات الروائية العربية والمغربية، بتدفق نصوص قوية على مستوى الاشتغال الذات، وتحولات المجتمع، والذاكرة الجمعية، والمنسي، والتاريخي المستعاد عبر الكتابة. إن ما يكتبه الروائيون العرب، والمغاربيون، والمغاربة، من أعمال روائية، وفي إنجازاته المتميزة، هو رهان على اشتغال روائي يجترح الذات ومجتمع الذات، ويوسع من آفاق الممكن والمحتمل والمتخيل، ولعل هذه الإنجازات لا تتميز بكونها طفرة أو موجة لها توقيتها الذي تتراجع فيه، بل إنها تتميز بأنها اشتغال على الكتابة الروائية، يعي تحولات المجتمع، وبالتاريخ الذي صنع هذه التحولات، ويعي أيضا بأن الرواية هي كتابة تكتب ذلك عبر اللغة، والمتخيل، وعبر اللعبة السردية. هذا الرهان، هو استعادة للذات العربية، والهوية العربية، من خلال تشكيل لحظاتها الصعبة والاستثنائية، من خلال التخييل الروائي. بالمناسبة، أذكر أعمال بعض أعمال الروائيين العرب والمغاربيين والمغاربة، قد أسست لمعنى الحفر في أركيولوجية مجتمع عربي له نداءات الذاكرة الخصبة، وجراح التاريخ وجراح الذات و الجسد، ولمتخيله الشعبي.
إن الرواية العربية اليوم، ومن ضمنها الرواية المغاربية، والمغربية، تتجه نحو اشتغال أساس على المجتمع ومجتمع الذات، وعلى الكتابة، باعتبارها وعيا شقيا بالمجتمع ومجتمع الذات، كما تشتغل على الكتابة باعتبارها صنعة روائية وبناء لإستراتيجية الأشكال. إذا كان هذا التصور لا ينسحب على كل الأعمال المنشورة، فهو ينسحب على الأعمال التي اكتسبت هذه الخواص الاجتماعية والجمالية، وهي كثيرة، والأسماء التي أنجزت أعمالا روائية بكل هذا البهاء، كثيرة، عربيا، ومغاربيا، ومغربيا.
محمد سعيد الريحاني: ما هو أقرب أعمالكم إلى وجدانكم، وما هو العمل الذي تمنيتم لو عاد الزمن إلى الوراء، لتعيدوا كتابته وتنسيقه؟
محمد عز الدين التازي: في العشرين رواية التي كتبتها لحد الآن (ثمانية عشر رواية منها منشورة، وروايتان بصدد النشر)، لا أجد سبيلا للجواب عن هذا السؤال. لست أتعامل مع رواياتي بوجدان يشدني إلى إحداها، وإنما أتعامل مع الرواية التي أنجزتها على أنها تجريب لاختراق عوالم وتجريب لتقنيات سردية لا يمكن أن تتكرر في رواية لاحقة. هاجسي هو التجاوز. تجاوز ما أنجزته في اتجاه ما سوف أنجزه. في مختبري السردي لا توجد هذه الأفضلية بين كيمياء نص وكيمياء نص آخر. الروايات التي كتبتها ونشرتها أنساها عادة، ولا أتذكرها إلا حينما أريد أن أتجاوز عوالمها في اتجاه عوالم أخرى مبكرة، وأن أتجاوز تقنياتها السردية لبناء تقنيات أخرى، حتى لا يكون لي نص روائي يشبه الآخر. انظر مثلا: إن “رحيل البحر” لا تشبه “أيها الرائي”، و”مغارات” لا تشبه ” خفق أجنحة”، و”أيام الرماد” لا تشبه “زهرة الآس”، و”امرأة من ماء” لا تشبه “حكاية غراب”. إني أنسى ما كتبت ونشرت من أعمال، ولا أستحضرها إلا وأنا أبجث في مختبري السردي عن مغايرة في تفاصيل المحكي، وطرائق البناء، وتشكيل العوالم، والاشتغال على الكتابة نفسها من حيث هي لغة وتخييل.
إن توسيع العوالم، والاشتغال على الأشكال، هو يشغلني، ولا يشغلني تمجيد عمل من أعمالي، أو حتى أعمالي كلها. أنا مغامر بالكتابة والمغامرون من الرحالة ما كانوا يمجدون مكانا على حساب آخر، بل كانت لهم في كل مكان يرتادونه جراح حكاية. هكذا أنا أغامر بالترحل من نص روائي إلى آخر. أجد اللذة في الترحل عبر الكتابة، دون أن أقع في أسر عمل معين، أسقط في تمجيده، فذلك يعوق تجاوزه في اتجاه كتابة عمل آخر مغاير.
أما عن العمل الذي عاد الزمن إلى الأمام، وبعد نشره، وقمت بإعادة صياغته ومراجعته وتنسيقه من جديد، فهي أعمال كثيرة قمت بإعادة الاشتغال عليها، بمناسبة طبعة جديدة، أو بمناسبة نشر “أعمالي الكاملة” فكنت أتدخل بالتنقيح اللغوي تارة وتارة أخرى بإعادة البناء والتشكيل وتارة ثالثة بأعادة صياغة العمل صوغا جديدا. حدث ذلك مع الطبعة الثانية من “رحيل البحر” فمن يقارن بين طبعتها الأولى التي صدرت من بيروت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت وطبعتها الثانية التي صدرت عن منتدى أصيلة بالمغرب، سيجد أن تشذيبا لحديقة السرد الروائي قد وقع. وحدث مع “المباءة”، فمن يقرأ نصها الذي نشرته إفريقيا الشرق ونصها الذي نشرته مكتبة الأمة سيجد أن تعديلا كبيرا قد طرأ على النص، وكان ذلك بمناسبة تقرير الرواية على تلاميذ الثانوي.
التعديلات التي أجريتها على بعض أعمالي، لم تمس من كيان العمل ومضمونه وروحه، بل هي صوغ أدبي جديد له، يحافظ على خصوصيته ومعناه، ولكنه يعمل على تقديمه في حلة أكثر اقتصادا وبهاء، ربما! لم أكن أخون رواياتي التي مارست عليها هذا النوع من التعديل، بل كنت أبحث لها عن شكل أكثر ملاءمة، حتى وقد كانت قد صدرت في طبعة سابقة، واحتفى بها القراء والنقاد. لا أجد غضاضة في هذا الأمر، ولست خجولا من الرواية التي نشرتها، وكما هي، في طبعتها الأولى، بل أنا، ولقد استشرت العديد من النقاد في هذه المسألة، أملك الحق في إجراء مثل هذه التعديلات على النص بمناسبة طبعة جديدة.
هنا، ومن هذه المكابدة، أقول إنني لست أميل بحنين خاص إلى واحد من أعمالي، لكي أسميه، ربما لأن ما سبق أن كتبته من أعمال، لا يشدني أكثر من مما تشدني الأعمال الروائية التي أنا بصدد كتابتها، أو الأعمال التي استشرف كتابتها.
محمد سعيد الريحاني: ما هو السؤال الذي تمنيتم لو طرح عليكم، ولم يطرح في هذا اللقاء الحواري؟
محمد عز الدين التازي: هو سؤال أنا الذي هو أنا، والذي ليس هو أنا، في أعمالي الروائية.